أصل وتاريخ ثوب التخرج

أصل لباس ثوب التخرج: دراسة تأريخية وثقافية موسعة

إنّ مشهد الطلاب المتوشحين بالعباءات السوداء والقبعات المربعة في حفلات التخرج يبعث على الفخر والهيبة، إذ يرمز هذا اللباس الاحتفالي إلى لحظة مفصلية في حياة الفرد الأكاديمية. لكن خلف هذا المشهد المألوف يكمن تاريخ طويل ومعقّد يعود إلى قرون مضت، يتقاطع فيه الدين، والعلم، والتقاليد الاجتماعية، والسياسة، والتطورات الثقافية. وفي هذا المقال الموسّع، يتم تتبّع أصل وتحوّلات هذا الزي الأكاديمي المعروف بـ”ثوب التخرج” (Academic Dress)، وتحليل أبعاده الرمزية وتطوّره الجغرافي والثقافي منذ نشأته وحتى العصر الحديث.

الجذور التاريخية لثوب التخرج في أوروبا الوسطى

تعود أصول ثوب التخرج إلى أوروبا في العصور الوسطى، وتحديدًا إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وهو نفس العصر الذي بدأت فيه الجامعات الأولى بالظهور، مثل جامعة بولونيا في إيطاليا (1088م)، وجامعة باريس في فرنسا (حوالي 1150م)، وجامعة أكسفورد في إنجلترا (1167م). في تلك الحقبة، كان التعليم محصورًا في الغالب على المؤسسات الدينية، وكانت الجامعات بمثابة امتداد للكنيسة الكاثوليكية من حيث التنظيم والأسلوب والرموز.

كان الرهبان، الذين شكّلوا الغالبية من المعلمين والطلاب، يرتدون عباءات طويلة تغطي معظم الجسد، مصنوعة من الصوف السميك، ليس فقط لتوفير الاحتشام بل أيضًا لمقاومة برد القاعات الحجرية غير المدفّأة. هذه العباءات كانت تشبه اللباس الكنسي الرسمي، ما يعكس العلاقة العضوية بين التعليم والدين في تلك المرحلة. ولأن التعليم كان يُنظر إليه على أنه شكل من أشكال الخدمة الدينية، فإن الزي الذي يلبسه المتعلمون كان بمثابة زي ديني أيضًا.

تطور اللباس الأكاديمي خلال عصر النهضة والإصلاح الديني

مع حلول عصر النهضة وظهور حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، بدأت تتغير ملامح الحياة الأكاديمية بشكل ملحوظ. ورغم أن الجامعات بقيت محافظة على الطابع الديني، إلا أن الفكر الإنساني والعلمي بدأ بالتغلغل في المناهج، وظهرت الحاجة إلى تمييز الرتب الأكاديمية عن بعضها البعض داخل المؤسسة الواحدة.

خلال هذه الفترة، تطوّرت أشكال الأرواب والقبعات الأكاديمية لتتناسب مع الرتب والدرجات المختلفة. فمثلاً، بدأ الأساتذة يرتدون أرواباً متميزة بخيوط ذهبية أو أطواق ملونة، بينما كان طلاب الماجستير والدكتوراه يرتدون أرواباً مختلفة عن طلاب البكالوريوس، سواء في اللون أو الزخرفة أو الخامات. وقد لعبت جامعات مثل كامبردج وأوكسفورد دورًا محوريًا في تقنين أنماط اللباس الأكاديمي، حيث لا تزال هذه التقاليد سارية إلى يومنا هذا داخل تلك الجامعات.

القبعة الأكاديمية: الأصل والمعنى

القبعة المربعة التي تُعرف اليوم بـ”القبعة الأكاديمية” أو “Mortarboard” هي جزء أساسي من زي التخرج. اسمها الإنجليزي مستمد من التشابه بين شكلها ولوح البناء المسطح الذي يستخدمه البناؤون لتثبيت الملاط (Mortar). يعتقد بعض المؤرخين أن أصل هذه القبعة يعود إلى “القلنسوة الرباعية” التي كان يرتديها الكهنة والعلماء في القرون الوسطى، خاصة في إيطاليا وفرنسا.

أما الشرّابة (Tassel) المتدلية من القبعة، فلها طابع رمزي أيضًا، وتغيّر موضعها من اليمين إلى اليسار يُعد طقسًا شائعًا في حفلات التخرج للإشارة إلى الانتقال من مرحلة الطالب إلى الخريج. وقد أُدرج هذا التقليد في الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين، ومن ثم انتشر إلى بقية أنحاء العالم.

انتقال اللباس الأكاديمي إلى أمريكا وانتشاره عالمياً

في القرن السابع عشر، عندما هاجرت النخبة الفكرية الأوروبية إلى “العالم الجديد”، أي الولايات المتحدة، جلبت معها تقاليد التعليم والزي الأكاديمي. وقد لعبت الجامعات الأمريكية الأولى مثل جامعة هارفارد (تأسست 1636م) وييل (1701م) دورًا رئيسيًا في الحفاظ على هذه التقاليد، بل وتطويرها أحيانًا.

وفي عام 1895، تم اعتماد “النظام الموحد للباس الأكاديمي” في مؤتمر شمل عددًا من الجامعات الأمريكية، ليكون دليلاً مرجعيًا يحدد ألوان الأوشحة، وأشكال الأرواب، ومواصفات القبعات. هذا التوحيد ساعد في جعل ثوب التخرج كما نعرفه اليوم أكثر انتشارًا وتوحيدًا على مستوى العالم، بالرغم من بعض التعديلات الطفيفة في بعض الدول والثقافات.

التفسير الرمزي والاجتماعي للباس التخرج

ثوب التخرج ليس مجرد زي رسمي بل يحمل دلالات رمزية عميقة. فهو يرمز إلى الجهد العلمي والانضباط الذهني، ويعكس مكانة العلم في المجتمع. كما أن مراسم ارتدائه تُعد نوعًا من الطقوس الاجتماعية التي تضفي على مناسبة التخرج طابعًا احتفاليًا ورسميًا.

يرى علماء الاجتماع أن لباس التخرج يعمل على إعادة إنتاج الهُوية الأكاديمية وتمكين الشعور بالانتماء إلى جماعة معرفية ذات تاريخ عريق. وهذا يفسر لماذا يحرص الخريجون من جميع التخصصات والأعمار على ارتداء هذا الزي، حتى في السياقات غير التقليدية مثل التخرج من الدورات التدريبية أو المؤسسات غير الجامعية.

تنويعات اللباس الأكاديمي عالميًا

رغم أن الطابع الغربي يطغى على شكل ثوب التخرج الحالي، إلا أن العديد من الدول حاولت إضافة لمسات محلية على هذا الزي. فمثلاً:

• في اليابان، قد تُستبدل الأرواب السوداء أحيانًا بالكيمونو التقليدي للنساء في حفلات التخرج.

• في الهند، بدأ البعض باستخدام شالات تحمل نقوشاً محلية أو رموزاً دينية.

• في دول الخليج العربي، أُدخلت بعض الزخارف الشرقية أو التعديلات في الألوان لتتناسب مع الذوق العام والثقافة المحلية.

هذا التكيّف المحلي مع الزي الأكاديمي العالمي يبرهن على مرونته واستمرارية رمزيته رغم التغيرات الثقافية والسياسية.

الجدول: تطوّر مكوّنات لباس التخرج عبر القرون

البعد الثقافي والاقتصادي للباس التخرج في العصر الحديث

في العصر الحالي، أصبحت حفلات التخرج فرصة لخلق ذكريات بصرية خالدة من خلال ارتداء هذا الزي الموحّد. وقد أدى ذلك إلى نشوء صناعة ضخمة متخصصة في تأجير أو بيع أزياء التخرج، وكذلك إنتاج الصور التذكارية الرسمية، ما جعل منها ظاهرة اقتصادية وثقافية مترابطة.

كما أن بعض الجامعات الكبرى تعتمد أزياء تخرج بتصاميم فريدة تميّزها عن غيرها، الأمر الذي يعزز من مكانة الجامعة ويزيد من شعور الانتماء لدى طلابها. ففي جامعات النخبة، يرتبط لباس التخرج بالفخر المؤسسي، ويتم ارتداؤه أيضًا في مناسبات احتفالية أخرى مثل منح الدرجات الفخرية.

خاتمة

يتّضح من هذا الاستعراض الشامل أن ثوب التخرج ليس مجرد تقليد شكلي بل هو امتداد لتاريخ طويل من الفكر والمعرفة والانتماء الثقافي. لقد تطوّر من زي ديني صرف إلى رمز للعلمانية والتحصيل العلمي، مرورًا بأروقة الكنائس وجدران الجامعات، ليستقر أخيرًا كطقس عالمي يوحّد الخريجين من مختلف الجنسيات والثقافات.

المصادر:

1. Groves, Nicholas. Academical Dress of British and Irish Universities. Burgon Society, 2011.

2. Noel Cox, “The Development of the Academic Gown,” The Journal of Academic Dress, Volume 3, 2004.